عام الحزن
وبعد فك الحصار توفي عمه أبو طالب الذي كان يذبّ عنه ويحوطه
ويحامي عليه، ثم توفّيت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تسري عنه همومه وتهون
عليه أتعابه، فسُمِّيَ ذلك العام عام حزن، وخلصت قريش وسفهاؤها إلى أذى للنبي صلى
الله عليه وسلم بما كانت لا تصنعه في حياة عمّه.
الإسراء والمعراج
ثم كانت حادثة الإسراء والمعراج كما رواها مسلم في صحيحه
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((
أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ
الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى
أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ
بِهِ الأنْبِيَاءُ قَالَ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِإِنَاءٍ
مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ: جِبْرِيلُ صلى
الله عليه وسلم اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ
فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ
مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ
إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي
بِخَيْرٍ - ثم عرج به إلى السموات فلقي فيها الأنبياء، ولقي موسى في السماء
السادسة قال - ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ
جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ:
مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ
إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم
مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ
يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى
السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا
ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ قَالَ فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ
تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ
حُسْنِهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ
صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاةً قَالَ:
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ
ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ قَالَ:
فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ
عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قَالَ:
إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ
التَّخْفِيفَ قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ
صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ
صَلاةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ
عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا
لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً قَالَ:
فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ
فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ
مِنْهُ )).
ومن هنا تعلم أهمية الصلاة فقد فرضت من بين أركان الإسلام
في السّماء السّابعة فأصبحت الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين وأصبحت
قُرَّة عين النبي صلى الله عليه وسلم. روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ
وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ )).
فكان يصلي ويطيل القيام حتى انتفخت قدماه الشريفتان كما روى
مسلم في صحيحه عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم صلى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا
وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ:
أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا )).
وكان يسمع لصدره وهو في الصلاة أزيز من البكاء، كما روى
أبوداود والترمذي وابن ماجة عنْ ثَابِتٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ
كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ صلى الله عليه وسلم )).
ولما حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً بالإسراء
والمعراج كذّبوه واستهزأوا به وانطلقوا إلى أبي بكر الصديق ظانّين أنه سيشكّ في
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إن صاحبك يخبر أنه أتى بيت المقدس وصعد
إلى السماء في ليلة واحدة! فقال الصديق: لإن كان قاله فقد صدق.
العرض على القبائل
قال ابن كثير: (( والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
استمرّ يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف
ولا يرده عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم
ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحجّ، يدعو من لقيه من حرّ وعبد وضعيف وقويّ، وغنيّ
وفقير، جميع الخلق عنده في ذلك شرع سواء.. )).
وكان أتباع رسول الله نُزّاعاً من القبائل وكانوا غرباء، لا
قبيلة تحميهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتاد للدعوة موطّناً تحتمي به،
وكان يأمر من اتّبعه من القبائل خارج مكة أن يبقوا في قبائلهم ويستخفوا حتى يظهر.
عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: (( كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه؟
فإن قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي )).
روى عبد الله بن ذكوان عن ربيعة بن عباد الديلي قال: ((
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَ عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها
الناس! قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا، ويدخل في فجاجها، والناس متقصفون عليه،
فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت يقول: أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله
تفلحوا، إلا أنّ وراءه رجلاً أحول، وضيء الوجه، ذا غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب،
فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النّبوّة، قلت: من هذا الذي
يكذّبه؟ قالوا: عمه أبو لهب. قلت: إنك كنت يومئذ صغيراً؟ قال: لا، والله إني يومئذ
لأعقل )).
وعن طارق بن شدّاد رضي الله عنه قال: (( رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم مرّتين، رأيته بسوق ذي المجاز، وأنا في بياعة لي، فمرّ وعليه حلة
حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل
يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوا
هذا، فإنه كذّاب، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا غلام من بني عبد المطلب، فقلت: من هذا
الذي يرميه بالحجارة، فقيل: عمه عبد العزى، أبو لهب )).
وعن شيخ من بني مالك بن كنانة قال: (( رأيت النبي صلى الله
عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: (( أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا )) قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: أيها الناس، لا يَغُرَّنَّكم
هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى، قال: وما يلتفت
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
الدروس والعبر:
1- هذه القصص تكشف عن مدى الجهد والكيد الذي بذلته قريش في
محاربة الدعوة وصاحبها على المستوى الفردي والجماعي.
2- حمل الرسالة في مجتمع ضالٍّ معناه أن المصلح سينكر أشياء
تعارف عليها الناس فعليه بتوطين نفسه على تحمل المعارضة والمحاربة والإيذاء.
3- لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم مع بعض القبائل لم
يدخلها الإسلام لكن على أقل تقدير أثار التساؤل عندهم، والتشكيك فيما هم عليه من
معتقدات. واستثمرهم كأداة إعلامية لأقوامهم وديارهم، حيث أنهم سيتحدثون بما وجدوه
في سفرتهم هذه وسيذكرون من لقوا ومن لقيهم وما هي الأحاديث التي دارت معهم.
4- لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يفرط في فرصة من الفرص
أو مجال من المجالات في تبليغ دعوته كما كان يفعل في المواسم والأسواق.
5- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن مأوى ومحضن
للدعوة تحتمي به حتى تكون حرة طليقة.
6- استخدام قريش في الصد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخطر وسيلة إعلامية آن ذاك وهو عمه أبو لهب في زمن يعتبر للقبيلة وزنها في الدفاع
عن أصحابها على حد القائل:
وهل أنا
إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد
وفي زمن تقوم الحرب الطاحنة بسبب إهانة جمل امرأة من
القبيلة فكيف برجل منها. وما أشقّ ذلك على نفس الرسول صلى الله عليه وسلم المكلّف
بالتبليغ عن ربّه، والذي يدعو الناس بالكلمة الطيبة وهو وحيد غريب، فينبري أقرب
الناس إليه يطارده أمام الناس الناظرين إليه، يرميه بالحجارة فيدمي عقبيه، ويحثو
التراب على رأسه ووجهه، ويكيل له التهم وهو المعروف بينهم بالأمانة والصدق
والوفاء.
7- ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم بنصر الله له جعلته لا
ييأس ولا يملّ، ويدأب في الدعوة وعرضها على القبائل والأفراد في جميع المواسم وعلى
كل المستويات.
8- صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على مشاقّ الدعوة
وعوائقها وتبعتها فلم يضعفه موقف سخرية، ولم يحبط همّته استهزاء مستهزئ.
9- كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم أوّل ما يعرض على القبائل كلمة التوحيد (( لا إله إلا الله ))
لأنها أساس الإسلام.
بيعة العقبة
قال جابر بن عبد الله: (( مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: من
يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو
من مضر - كذا قال - فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين
رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدّقناه،
فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم
يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.
وبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكّة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في
الموسم، فواعدنا بيعة العقبة. فقال له عمه العبّاس: يا ابن أخي لا أدري ما هؤلاء
القوم الذين جاءوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب.
فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا
قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث!
فقلنا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟
قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى
النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في
الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون
منه أنفسكم، وأزواجكم، وأبناءكم، ولكم الجنّة.
فقمنا نبايعه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو أصغر السبعين
- إلا أنه قال: رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم
أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافّة، وقتل خياركم وأن يعضكم
السيف. فإن أنتم قوم تصبرون عليها إذا مسّتكم، وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب
كافَّةً، فخذوه وأجركم على الله، وإن أنتم تخافون من أنفسكم خيفةً فذروه فهو عذر
عند الله عزّ وجلّ! فقالوا: يا سعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا
نستقيلها، قال: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا، ليعطينا بذلك الجنّة )).
بعض الدروس والعبر والفوائد:
1- تتبّع الرسول صلى الله عليه وسلم للناس في منازلهم
وأسواقهم عشر سنين يكشف لنا مدى الجهد والتعب الذي بذله الرسول صلى الله عليه وسلم
في دعوته ومدى صبره ومواصلته للعمل وعدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم.
2- حجم الدعاية الإعلامية التي شنّتها قريش ضدّ الرسول صلى
الله عليه وسلم بين قبائل العرب حتى جعل الناس يحذّرون أفرادهم منه.
3- أن الحملة الدعائية مهْما كان حجمها والجهود التي بذلت
فيها ومهْما كان اتّساعها فإنها تبقى محدودة ولن تستقطب جميع الناس حيث يبقى من لا
تؤثر فيه تلك الدعايات ممن هو خارج عن إطار الإمّعات.
4- لا يستوحش من الحق لقلة السالكين وهذا الدين سيمكّن في
الأرض ولو بعد حين، فقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً يطارد بمكة
ويحذّر منه، فلم يتطرّق إلى نفسه اليأس من الانتصار، وجاء نصر الله مسوقاً إليه من
أهل المدينة، فالاضطهاد والملاحقة لا تثني الداعي عن دعوته، ولا تمنع من استجابة
الناس له.
5- التفكير في إخراج الدعوة من الحصار الذي يضربه عليها
أعداؤها وفكّ الخناق عنها، فلقد كان ذلك هو شغل الأنصار الشاغل وهمّهم الذي ينامون
عليه ويصحون معه، مع الشعور بالمسؤولية وإن لم يطلب منهم ذلك، حيث أن حجْر الداعية
ومنعه والحظر عليه مضرة بالمدعوين أكثر من الداعي. لذا قالوا: (( حتى متى نترك
رسول الله.. )).
الهجرة إلى المدينة
وبعد بيعة العقبة بدأت طلائع المهاجرين تتوجّه إلى المدينة
أخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( قد أريت دار هجرتكم رأيت
سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة..
)).
أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (( أول
من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم،
فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
قال البخاري عن عائشة: (( وتجهّز أبو بكر قِبَل المدينة،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال
أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السدر - وهو الخبط - أربعة
أشهر )).
وهنا تعرف أخي الكريم منـزلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحباً
له من بين جميع أصحابه.
وظلّ رسول الله ينتظر أمر ربّه بالهجرة إلى المدينة، وقريش
جاهدة في حربه والكيد له حتى ائتمروا في دار الندوة على أن يأخذوا من كل قبيلة
فتًى جلداً فيعطونه سيفاً حاداً فيقتلون به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتفرّق
دمه بين القبائل.
قال ابن إسحاق: (( ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من
المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منهم منعةً، فحذروا خروج
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في
دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها -
يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خافوه.
فقريش تخطّط للإيقاع بالدعوة، ورسولُ الله صلى الله عليه
وسلم يخطط للنجاة بها إلى بر الأمان.
روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: (( لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلا
وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا
فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً
وَعَشِيَّةً )).
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ:
(( فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ
الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ
السَّاعَةِ إِلا أَمْرٌ قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ
أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي
الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِالثَّمَنِ قَالَتْ عَائِشَةُ:
فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ
فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ
بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ:
ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي
جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ
عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلا يَسْمَعُ
أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ
حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ
مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ
تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ
مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ
بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثِ
وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ
بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِياً خِرِّيتًا
وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ
بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ
فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ
لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ
فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ )).
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عبد الرحمنِ بْنُ
مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ
أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: ((
جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
كَانُوا تُجَارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّأْمِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ
بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ
فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى
يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا
انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ
عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ
فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ
الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمِ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى
السِّلاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِ الْحَرَّةِ
فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَامَ
أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامِتًا
فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ
فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ
يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله
عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ
ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغُلامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا
بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالا: لا بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى
ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ
اللَّبِنَ:
ذَا
الْحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَرْ *** هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الآخرة ***
فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ
يُسَمَّ لِي )).
بعض الدروس والفوائد والعظات من الهجرة:
1- تقدم إسلام آل أبي بكر (( لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان
الدين )).
2- اهتمام أبي بكر بأهل بيته وإصلاحهم والبدء بهم قبل
غيرهم.
3- منـزلة أبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم وصلته
الوثيقة به، ومعايشته لأمر الدعوة منذ بزوغ فجرها، فقد كان عليه الصلاة والسلام
يزوره كلّ يوم مرّتين.
4- إن تفكير أبي بكر في الخروج من مكّة مهاجراً لوحده مع
منـزلته وأهميته للدعوة وصلته الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ليكشف عن مدى
الأذى والشدّة التي تلحقها قريش بالمسلمين. هذا مع أن أبا بكر من الأشراف ومن
الذين يجدون منعةً في قومهم فكيف بالضعفاء والعبيد!!
5- أن أمن الدين هو الأصل عند المسلم فإن وجد عليه خطراً
دفع بلده وماله وأهله حمايةً لدينه، ولهذا خرج أبو بكر مهاجراً وحده تاركاً كل شيء
خلف ظهره يطلب الأمان لدينه ودعوته.
6- بلد المسلم ووطنه هو الذي يتمكن فيه من إظهار دينه
ودعوته فيه، ولهذا خرج أبو بكر على الرغم من أفضليّة بلده على سائر البلدان. وعلى
المسلم أن لا يركن إلى الذلّ والهوان بل يعمل تفكيره في الخروج من الحصار المضروب
على دينه ودعوته، ويبحث عن موطن موافق أو مسالم لها. حتى يتمكّن من تحقيق عبوديّته
لله تعالى.
7- لقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة ولم
يختر صاحباً له في الهجرة غير أبي بكر وفي هذا دلالة على عظم الصلة وقوّة الرابطة
بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم. (( على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي )).
8- لقد تجهّز أبو بكر للهجرة إلى المدينة، ولكن بعد ما عرّض
له الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحبة جلس وتحمّل الأذى والعنت والتعب من قريش
طاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبةً في مصاحبته. (( فحبس أبو بكر نفسه على
رسول الله ليصحبه )).
9- مبادرة أبي بكر في الترتيب لأمر الهجرة، وبذل المال في
خدمة دعوته بدون طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قام مباشرةً بعد تعريض
الرسول صلى الله عليه وسلم له بالصحبة بتعليف راحلتين كانتا عنده ; إذ مثل هذا من
بدهيّات الهجرة فلا تحتاج إلى أمر يتلقّاه من الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا
بيان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يربّيهم تربية العبيد تربية الخنوع
وإلغاء العقل مع المتبوع.
10- مقابلة التخطيط بالتخطيط، والتنظيم بالتنظيم، والترتيب
بالترتيب، فقريش تخطّط وترتّب للإيقاع بالدعوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم
يخطّط ويرتّب للنجاة بها، وهذا يوضح أن الاستسرار فيما يخدم الإسلام بما لا يتعلّق
به بلاغ ولا بيان ولا يترتّب على إسراره كتمان للدين أو سكوت عن حق من سنّة الرسول
صلى الله عليه وسلم ولا يتعارض التخطيط وأخذ الحيطة مع التوكّل على الله تعالى لأن
الأخذ بالأسباب جزء من العبادة.
11- وإن من أعظم مظاهر التضحية في هذه الهجرة أن يغادر
النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون هذا البلد الأمين الحبيب إلى قلوبهم - بل وإلى
قلوب جميع المسلمين - مغادرةً يعلمون أن لا استقرار لهم فيه بعدها، وهذا من أشقّ
الأمور على النفس، ولكن رجال العقيدة يرخصون في سبيلها كل غالٍ.
ولقد عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى - معنى
صعوبة مغادرة مكّة وفراقها فراقاً لا سكنى بعده - في العديد من المواقف المؤثّرة.
عن عبد الله بن عدي
بن حمراء الزهري قال: (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحَزْورة
فقال: والله والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت
منك ما خرجت )).
12- تربية أبي بكر لأسرته على الأمانة وإحاطة الإسلام وحفظه
وبذل ما يملكون في سبيل ذلك، وكان واثقاً أتمّ الثقة بتربيته فقال للرسول صلى الله
عليه وسلم لـمّا أمره بإخراج من عنده: (( لا عين عليك ))، (( إنما هم أهلك يا رسول
الله )).
13- الرغبة في مصاحبة أهل الخير مهما ترتّب على ذلك من
أخطار. قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: (( الصحبة يا رسول الله )).
14- منـزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر أوصلته
إلى البكاء من الفرح لـمّا أخبره بمصاحبته في الهجرة.
15- الرغبة في المساهمة في طريق الخير وعدم الاعتماد على
الآخرين في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أبى أن يركب راحلة ليست له حتى
اشتراها من أبي بكر بالثمن، حتى تكون هجرته بماله ونفسه رغبةً في استكمال فضل
الهجرة والجهاد على أتمّ أحوالهما.
16- أسرة أبي بكر تشارك بمجموعها في إنجاح خطّة الهجرة
النبوية.
17- الاستفادة من خبرات وطاقات المجتمع وتوظيفها في
المجالات المناسبة، فعبد الله بن أبي بكر للأخبار، وعامر للشراب، وأسماء وعائشة
لتجهيز الطعام وهكذا.
18- الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن حالهم، ولم يكن
لهم شوكة في التأثير على القرار، وعرفوا واشتهروا بما يراد منهم، ولم يكن أحد من
المسلمين يسدّ هذه الوظيفة، وكانت عاداتهم وتقاليدهم تفرض عليهم الأمانة في أداء
تلك المهمّة.
19- اتّخاذ الأسباب والاحتياطات التامّة، ثمّ التوكّل على
الله تعالى والثقة المطلقة به والاطمئنان لنصره، وعدم الاتّكال على الأسباب ذاتها.
قال أبو بكر: (( يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا )). قال: (( ما ظنك
باثنين الله ثالثهما )).
20- إن نصر الله فوق كلّ نصر وقدرة الله فوق كلّ قدرة، وأمر
الله فوق كل أمر، وتأييده يتحدّى كلّ قدرات البشر وطاقاتهم، فهذه قريش صاحبة
السلطة وتحت يدها السلاح والرجال والأموال ومع ذلك لم تستطع أن تهتدي إليهم في
الغار.
21- نجاح خطة وترتيبات الهجرة النبوية، فعلى الرغم من حرص
قريش وتعميمها على القبائل وبذل الأموال في سبيل ذلك إلا أنه لم يدركهم منهم أحد
غير سراقة.
22- لقد كان أبو بكر قلقاً على حياة رسول الله من أن يصيبها
أذى ولذلك يكثر الالتفات، أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً من
نصر ربّه له، مطمئناً إلى ذلك لم يعبأ بالخطر مع قربه منه، ولم يستحق منه مجرّد
الالتفات، قال أبو بكر: (( هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله )). فقال: (( لاتحزن
إن الله معنا )).